القائمة الرئيسية

الصفحات

Getlike

 


الخطيئة المثمرة


بينَ براثنِ الليلِ وأضغاثِ الظلام ،وتوحُشِ البردِ،ومخلابِ الخوفِ الجارِحةِ، تفوحُ رائحةُ تلكَ الجريمةِ البشعةِ،وتسيرُ أرجُلُ الألمِ المفترسةِ تحاوِطُ مُضغةَ لحمٍ قدْ أُلقيتْ بلا رحمةٍ على مَرمى قمامةٍ رَثٍّ،يصرخُ ولسانُ حاله يقولُ: أنْ ارحمُونِي !

وأنْ مِن أينَ جِئتُ ؟

أينَ حُضنُ أُمي؟

أَليسَ مِن المُفترَضِ أنْ أكونَ اللحظةَ أرضعُ حنانَها ودفءَ حُضنِها؟

أينَ أبي الذي خُلِقتُ مِن صُلبِهِ؟

لِمَ أنا مُلقى وكأننِي جريمةُ عُهرٍ على مِنضدةِ قاضٍ ديوثٍ ؟

نهشَ البردُ عظامَهُ،وتشمَمَ الكلبُ أطرافَهُ ليَهُمَ بأبتلاعِه قضمةً واحدًة .

لكنّ الذي خلقَهُ أرحمُ بِهِ مِنْ مَنْ وَلِدَه،حَملهُ رَجُلٌ كانَ قَد هَمّ لصلاةِ الفجرِ ،فتحسَسَ صوتَه المُستغِيثِ فأغاثَهُ،وهو يرددُ:"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".

كَبُر وترعرعَ فِي كَنفِ أُسرةِ الرجُلِ ،لمْ يفكِرْ يوماً في ماهِيتِه ،فلقدْ ربّاه كفلذةِ كَبِدِه،أصبحَ شاباً يَافِعاً ،لهُ مِن الدِينِ حظَّ الفُقهاءِ ،ومن الضياءِ ما يُربككَ .

في صبيحةِ يومٍ تظللَ بغمامِ الأملِ ،طرقاتٌ مزينةٌ بالحياءِ على بابِ الرجلِ الطيبِ ،هرعَ الشابُ الوسيمُ ليفتحَه،وَجِمتْ ملامحَهُ وإندهشَ برؤيةِ تلك السيدةُ ذاتَ الأربعينَ عاماً على ما يبدو، التي كأنّه من ضِلعِها خُلِق ،تشبِههُ فِي كلِ شيءٍ حتى ذلك الشقِ الذي على حاجبِهِ ،أحتضنته وصارت تقبله في ندم قاهر،ودموع حزنها تتحرر من أعينها ،وقفَ صامِداً لم يحرِكْ ساكناً،أدخلَها ونادَى والدَهُ ،رحبَ بها وبعدَ أخْذٍ وعطاءٍ في الحديثِ ،قالتْ:هذا ابني .

لم يتفاجأ الرجلُ ،رجعتْ بهِ للوراءِ ...

كنتُ في عُمرِ الزهورِ ،ألقَى شِراكَ حبِّهِ المُزركشةِ بالنزوةِ والمتعةِ الوقتيةِ،لم أعِي فقد أعمانِي عِشقَه ،وأصبحَ تعلقِي بهِ سلاحَهُ الذي يهددُنِي ويكسرُنِي بهِ ،قيّدنِي بوعودِه الزائفةٌ ،وكبّلنَي بكلماتهِ المعسولةِ،إغتصبَ مُراهقَتي ،وهتكَ شرفَ قلبِي ،كلُ هذا كان بإرادتِي ،كان خطئي ،حسِبتُ أننا سنكملُ معاً،حتى تكونتْ خطِيئتُنا حيةً في أحشائِي ،حينها غرزَ رِمحَهُ في قلبِي ،إدعَى أنه لم يلمسْنِي قطٌ،أنّه لا علاقةَ له برزيلتِي ،أمرنِي بقتلِ طفلِي،ولكنّي لم أكنْ لِأرتكِبَ فاحشتَينِ في آنٍ واحدٍ،لستُ بتلكَ البشاعةِ،لكنه لوثَني بكذبِه وغدرِه.

عانيتُ حتى ولِدتُ خطيئتِي ،وضعتُه على حاويةِ القمامةِ وكنتُ على أملٍ ورجاءٍ أنّ الله سيعطفُ به ،لكنّي لم أغفرْ لنفسِي ذنبِي .

أراقبُه منذْ أخذتَه ،طالَ عذابِي وهو بعيدٌ عني،تزوجتُ وعاقبنِي ربّي بالعُقمِ بعدَه،هجرنِي زوجِي بعدَ أنْ أفشَى السرُ الذي وعدنِي بكتمِهِ،لم يقبلنِي والدَايَ،كل يومٍ أُقدِمُ على المجئِ وأترددُ خوفاً،كانَ يكبُرُ أمامِي ولا حقَّ لي بحَضْنِه وتقبيله كحالِ الأمهاتِ،وها أنا اليومُ على أعتابِ الهَرمِ ،أريدُ أنْ أُكمِلَ ما تبقى لي من أيامِ عذابِي تحتَ مغفرتِهِ ،فهلا تكرمتَ لي بأخذهِ معي؟

=ما كنت لأحرمكِ منهُ إن أتيتي،هو ابني ،سأنتزعه لكِ،لكن إحسني فيه ما أستطعتِي،إن كُنتِ قد ندمتِي فالله غفورٌ رحيمٌ،وابنك هو قطعةٌ منكِ فلن يشقيكِ.

شابٌّ وقورٌ ،انصدمَ ولكنّهُ إنصاعَ ،فما عصَى أُمهً قَطٌ ،قبّلَ رأسَ والِدَهُ ،ولمْ يأبَى كبقيةِ الأطفالِ الذين تَقسُو قلوبَهُم وينفرونَ من والداتِهم ضحياتُ الشهوةِ ،لكنّه أنكسرَ،وخافَ ،ونظرَ في عَينِ روحهِ،إنخدعَ وغفرَ ،ولكنّه أطاعَ ربّهُ ما أمر.

#أروى-معتصم

#مدونة_كتابات

#نبض_الكتابة_والمواهب_الهادفة

author-img
خدمة نشر الكترونية

تعليقات

Getlike